موضوع: قصه سيدنا محمد (ص) كامله الجزء الثاني الإثنين مارس 15, 2010 2:37 am
الضغط علي أبي طالب
إن أبا طالب وقد نشأ مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* في بيته، وكبر أمام عينيه، وشهد من كريم صفاته، وسامي أخلاقه، ما قرت به عينه، يشعر حقيقة أن مُحَمّدا ابنه لا ابن أخيه. إنه نبي، هذه الحقيقة التي تملأ فؤاد أبي طالب، ويفخر بها لسانه، هي نفسها التي نطق بها حين سأله بحيرا الراهب: ما هذا الغلام منك؟ وقد اصطحب مُحَمّدا صبيًا في رحلته إلي الشام، ولأنه ابنه، ولأنه مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* الذي يعرفه جيدًا فقد ناصر أبو طالب مُحَمّدا في كل موقف، وسانده في كل ضيق، وسانده حين أقر لابنه علي اتباعه، وحين أعلن تأييده يوم دعا الرسول بني هاشم، وصرح أبو طالب بمناصرة مُحَمّد في أروقة مكة وأنديتها، وما كان جوار أبي طالب *كبير مكة وسيد بني هاشم* بالجوار الذي يعتدي عليه؛ لذلك رأت قريش أنه لا سبيل إلي مُحَمّد إلا عن طريق عمه، فأخذت تمشي إليه مرة بعد مرة، مشت إليه في بداية جهره فردها ردًَّا رقيقًا، ومشت إليه في العام السادس للنبوة عارضة أن يبدلوه عمارة بن الوليد بن المغيرة *أنهد فتي في قريش وأجمله* بمُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* ليقتلوه، فتعجب أبو طالب من عرضهم وأجابهم داهشًا: أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟!. وذهبت إليه قريش مرة ثالثة متهددة متوعدة: تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتي يهلك أحد الفريقين. ولقد تعبت أعصاب أبي طالب واهتزت في هذه المرة فراجع ابن أخيه قائلاً: ابق علي وعلي نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فأجابه الرسول *صلي الله عليه وسلم* حزينًا: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر حتي يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته، ثم دمعت عيناه ومضي *صلي الله عليه وسلم*، أما أبو طالب فقد ناداه ثم قال له: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.
عوامل الصبر والثبات
عشر سنوات كاملة قضاها المسلمون مع نبيهم تحت وطأة التعذيب، يكتوون بجمر قريش، ويسامون الضيم من سفهائها فما تخلف أحد منهم عن دينه، وما نقص يومًا عددهم أو إيمانهم، ولقد كان وراء ذلك من ثبات علي العقيدة، وانتشار للدعوة رغم حلكة ظروفها، عوامل بارزة وأسباب عديدة:
أولها: إيمانهم العميق بالله: حتى إنهم عرفوه حق المعرفة، فملأ اليقين قلوبهم، وهانت الشدائد علي نفوسهم.
ثانيها: يادتهم المحبوبة: مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* الرجل الكريم الذي تجتمع عليه الأفئدة، وتنجذب إليه النفوس، ويوقن بقدره، ويعترف بذلك الأعداء له قبل الأصدقاء.
ثالثها:الشعور بالمسئولية: حتي إن أحدثهم إيمانًا يعلم علمًا أكيدًا، أنه مكلف من ربه {ز وجل}بحمل الرسالة إلي العالمين، والصبر من أجل ذلك.
رابعها: ليقين بالآخرة: وحسبهم أن يروا البعث والحساب، والجنة والنار، رؤية العين حتي يعملوا فلا يملوا، ويصبروا فلا يكلوا.
خامسها: قرآن: الذي كان الوحي يأتي به صباح مساء، يعالج قضاياهم الآنية، ويجيب عن أسئلتهم الحائرة، ويرد علي خصومهم وأعدائهم، ويطوف بهم في أرجاء الكون الواسع، ثم يعرج بهم إلي ما خلف هذا الكون، فتنشرح صدورهم، وتثبت أقدامهم.
سادسها: لبشارات: التي كان القرآن يتنزل بها، والنبي *صلي الله عليه وسلم* يحدثهم عنها فهم في صبرهم ذلك موقنون بالنصر، متحينون مقدمه.
سابعها: ذه التربية الدقيقة التي كان يقوم بها النبي بنفسه، فيغذي أرواحهم، ويزكي نفوسهم، ويطهر أخلاقهم يومًا بعد يوم، من أدران الجاهلية ولوثاتها.
ثامنها: نهم مع هذا كله لم يكونوا قاعدين مستسلمين لما يسومهم به مشركو مكة من التعذيب والتنكيل منتظرين فرج الله دون عمل، بل كان للقوم طريق واضح، يبصرونه جميعًا، ويسيرون عليه دأبًا؛ للخروج من هذه الأزمة الطاحنة.
وضوح الطريق والمقامة السلمية
اختط المسلمون ونبيهم مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* لأنفسهم طريقًا واضحة المعالم، ذلك أن العاقل ينبغي له أن يفقه سيره، ويعلم ما يسمح له فيه، وما يحظر عليه، حتى لا يقف أمام كل عثرة أو منحني يعيد حسابات قد انتهي منها، ويكرر تفكيرًا كان منه قد فرغ!.
وتميز هذا الطريق بقواعد عدة منها: المقاومة السلمية، وإنقاذ المستضعفين، والاستفادة من قوانين الشرك، وعدم المساومة علي العقيدة، والاستفادة من المشاركة بين الإسلام والديانتين السماويتين: اليهودية والنصرانية، وتحييد بعض الشخصيات المشركة، وطلب المنعة من خارج قريش، والمجاهرة بالدعوة في كل وقت وكل حين.
من بين ثلاثمائة صنم يحوطون الكعبة، وآلاف المخمورين الذين يجوبون طرقات مكة، ويطرقون دور البغاء بها صباحًا ومساءً، خرجت الدعوة الخاتمة للعالمين، والدعوة الوليدة تصطدم في جوهرها بنظم مكة العتيقة، وحياة أهلها، فهل يكتب علي المؤمنين بها أن يصطدموا بأهل مكة، والدعوة بعد في أولي خطواتها؟. لقد نهاهم القرآن أن يسبوا الآلهة الصماء، وامتنعوا هم أن يردوا إلي المشركين إساءاتهم ومكائدهم اللئيمة. إن العربي الذي كان يقيم حربًا لسنوات طويلة ولا يقعدها من أجل أن فرسًا سبقت أخري دون حق، صار اليوم بعد أن دخل دين الله يعرف كيف يضبط نفسه، ويشكم جماحها، فقد تعلم من نبيه *صلي الله عليه وسلم* الإخلاص، فإلام الثأر والانتقام؟! ألحظ نفسه؟، حاشاه أن يفعل! أما إن كان لله ورسوله ودينه العمل فالخير إذن في الصبر والاحتمال. كانت هذه الخطة بليغة الأثر في نفوس أهل مكة ومن حولها، فهم يرون قومًا لا يقولون إلا شهادة الحق، ثم يرون آخرين ثائري الرأس، معكري المزاج، يسومونهم خسفًا بعد خسف، ويذيقونهم ظلمًا وعدوانًا، فكان هذا المنظر يهيج النفوس الكريمة؛ لسماع دعوة الحق الطاهرة، النقية الواضحة، التي لم تشوش علي نفسها بحرب أو قتال، وتركت المجال فسيحًا لآيات الله فحسب، تبين الحق، وتنير السبيل، وترد على المشركين.
إنقاذ المستضعفين
لم يكن موسرو المسلمين حين يلتقون مع الفقراء والضعفاء منهم يرون أن واجبهم تجاههم هو السلام والتبسم، ثم صالح الدعاء فحسب، بل كانوا يعلمون أن عليهم أن ينقذوا هؤلاء المستضعفين الذين آمنوا بالله ربًا، وبمُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* نبيًّا ورسولاً، وإن أنفقوا في سبيل الله مالهم كله، أليسوا هم يعلمون أن أخوة الإسلام تعلو علي أخوة النسب؟ ألا ينبغي لهم أن يكونوا أسرة واحدة متكافلة متكاتفة؟. لقد حرر أبو بكر الصديق *رضي الله عنه* وحده ست رقاب، بلال سابعهم، وأجاب أباه حين قال له: يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذا فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟! أجابه قائلاً: يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل.
الاستفادة من قوانين الشرك
عاشت الدعوة زمنًا طويلاً في مجتمع تحكمه قوانينه، والمجتمع المشرك بمكة ما كانت تحكمه إلا قوانين الشرك، وشريعة عباد الأوثان، لكن الدعوة وهي تسعي بين دروب هذا المجتمع، ما كانت تسأل نفسها حين تجد قانونًا من قوانين مكة، من وضع هذا القانون؟، إنما كانت تستبدل به سؤالين: هل يناقض هذا القانون شريعة الإسلام أو أحكامه؟، وهل يفيدني هذا القانون بشيء. فإن كانت الإجابة الأولي بلا والثانية بنعم، تناولته ومضت تعبِّد به طريقها!. يحق للضعيف أن يدخل في جوار قوي فلا يهضم حقه أو يمس عرضه أحد قوانين مكة يومئذ، لاقته الدعوة في طريقها، فوجدته متفقًا مع مبادئها، خادمًا لمصلحتها، فاستفادت به أيما فائدة، مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* يجهر بدعوته ليل نهار، وهو في جوار عمه، فلا يمسه سوء وأبو بكر صاحبه الصديق يخرج من مكة مهاجرًا إلي الحبشة فيلقاه ابن الدغنة سيد قبيلة القارة، فلا يرضي بذلك، بل يقول له: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين علي نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، ويعود أبو بكر إلي مكة في جوار مشرك يحفظ للكبار أقدارهم.
عدم المساومة علي العقيدة
لم يقبل رسول الله *صلي الله عليه وسلم* من قريش المساومة علي عقيدته، وكذلك فعل المسلمون، وموقف جعفر بن أبي طالب ممثلاً للمسلمين المهاجرين إلي الحبشة أمام النجاشي ملكها يؤكد ذلك، وقد وردت أخبار عن اضطرار بعض الصحابة أن يقولوا في الإسلام قولاً مكروهًا تحت وطأة تعذيب لا يتحمله بشر، فهل كان هؤلاء السابقون الأجلاء في موقف مساومة؟!. كلا، فقد نزل فيهم (..إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
المشاركة بين الاديان السماوية
وقف أبو جهل ذات يوم في نفر من قريش يعترض ركبًا قد همّ بمغادرة مكة قائلاً: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، وتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال! ما نعلم ركبًا أحمق منكم. أما الركب فكان وفدًا من نصارى الحبشة، وأما الرجل الذي سعوا في خبره فقد كان مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم* ذلك النبي الذي جلسوا عنده يسألونه، فتلا عليهم القرآن حتى فاضت أعينهم من الدمع. وقديمًا قبل هذه الوقعة حزن المسلمون لفوز الفرس عباد النار علي الروم المسيحيين، حتى ليتراهن أبو بكر وأحد المشركين علي نصر الروم علي الفرس في بضع سنين، وكما كان الحال مع النصارى كان مع اليهود، فالمسلمون في هدنة مع هذين الطرفين، حتى إن مشركي مكة حين عادوا بأسئلة يهود يثرب إلي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* فأجابهم، شعروا أن كلا الفريقين والمسلمين واليهود في خندق واحد. والناظر في ثنايا السيرة يشعر أن مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم* وصحبه كانوا يبحثون عن نقاط الالتقاء، ويسعون نحو التقارب، مع من يقابلونه رغم عدم مساومتهم علي العقيدة.
تحييد بعض الشخصيات
الكافرون المعاندون ليسوا سواءً!! هكذا كانت القاعدة التي سار عليها مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* ومن معه. فأبو جهل الذي يؤذي بقوله وفعله ليس كابن الدغنة الذي يجير أبا بكر حتى يعبد ربه، وابن الدغنة ليس كأبي طالب الذي يجير مُحَمّدا حتى يدعو إلي ربه، وغير هؤلاء جميعًا هناك من لا يؤذي ولا يجير، أو بعبارة أخري لا يضر ولا ينفع، وهو بغير شك خير ممن يضر ولا ينفع! جلس عتبة بن ربيعة سيد بني أمية إلي النبي يفاوضه، فما قاطعه الرسول*صلي الله عليه وسلم* ولا استعجله، إنما استمع له بصدر رحب، يعرف كيف يحاور الخصوم، ويحترم آراءهم المخالفة، حتى إذا انتهي عتبة من حديثه، سأله الرسول *صلي الله عليه وسلم* برفق وأدب: أقد فرغت يا أبا الوليد؟، فأجابه عتبة: نعم، فمضي رسول الله *صلي الله عليه وسلم* يقرأ من سورة فصلت حتى أتي موضع السجدة فسجد، وقام عتبة إلي قريش يقول لهم: خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه. إن عتبة لم يؤمن لكن الرسول*صلي الله عليه وسلم* استطاع بحواره أن يحيده هو وبني أمية أكبر تجمع عربي بعد بني مخزوم، وتفتيت صف المشركين نصر كبير ولا شك.
الإصرار علي الجهر بالدعوة
منذ أن اعتلت قدما مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* جبل الصفا بمكة جاهرًا بدعوته، وحديث الإسلام في كل بيت، وخبر دعوته في كل ناد وطريق، اختبأ المسلمون بدار الأرقم أم ظهروا، أعلنوا عن إسلامهم أم أسرّوا، فالدعوة وخبرها هما موضوع الساعة ومحور الحديث. يظن المشركون أن الدعوة مخنوق نورها بمكة، فيجدون أبا ذر الغفاري يطلع عليهم عند الكعبة ليهزأ بآلهتهم وقد آمن، ويعتقد الواهمون منهم أن صوتها قد كبت من الخوف، فيفاجئون بصوت عبد الله بن مسعود يصدح بالقرآن بين ظهرانيهم، ويتمطون يومًا متكاسلين وقد اطمأنوا أن الدعوة حوصرت في البيوت، فيستيقظون علي أقدام المسلمين تدق طرقات مكة في صفين علي أحدهما حمزة وعلي الآخر عمر، وهكذا حرص المسلمون طوال هذه الفترة ألا تنسي دعوتهم ولا يغيب ذكرها، أما مشركو مكة الذين يريدون منع النبي *صلي الله عليه وسلم* من نشر دينه بين القبائل في موسم الحجيج، فقد قدموا للإسلام خدمة جليلة حين جابوا قبائل الحجيج وبطونهم يحذرونهم من هذا النبي الجديد، لأنهم قد نشروا الخبر بأنفسهم في الجزيرة بأسرها، حين لم يستطع المسلمون وقتها أن يصنعوا ذلك.
دار الأرقم
الوضع في مكة جد خطير، فالدعوة الوليدة تنساب إلي كل بيت، تهز كيان مكة الديني، وتزعزع أركان قريش في أرض العرب، وأعين المشركين وآذانهم تعد علي المسلمين أنفاسهم، وتحصي خطواتهم، وتتسمع أخبارهم، لتجهز عليهم، ولذا كان من الواجب علي المسلمين أن يستتروا، وأن يتخفوا عند اللقاء، وبدار الأرقم بن أبي الأرقم كان اجتماعهم الدوري بنبيهم *صلي الله عليه وسلم* وكان وراء اختيار هذه الدار أسباب وجيهة. أما ما كان يحدث داخلها، بعيدًا عن أعين قريش، فكان حدثًا فريدًا في التاريخ، صحابة رسول الله *صلي الله عليه وسلم*أول من آمن به وصدقه ودافع عن دين الله، يجلسون إلي رسول العالمين بنفسه، يتلقون منه آخر ما نزل به جبريل الأمين من ربه *عز وجل*، تلقيا دائمًا مستمرًّا، تزكو به نفوسهم، وتتطهر قلوبهم، وتصاغ عقولهم وأرواحهم صياغة جديدة، رحم الله الأرقم ورضي عنه، لقد جعل داره مرفأ لسفينة الإيمان، ومهدًا لدعوة الله عز وجل، ومدرسة تلقي فيها الأولون دينهم.
أسباب اختيار دار الأرقم
كان وراء اختيار دار الأرقم بن أبي الأرقم أسباب عديدة تهدف جميعها إلي حجب المسلمين عن أعين أعدائهم.
أما أول هذه الأسباب، فهو جهل قريش بإسلام الأرقم.
وأما ثانيها: فكون الأرقم من بني مخزوم، حاملي لواء الحرب والتنافس مع بني هاشم، فلا يسبق إلي ذهن قريش أن مُحَمّدا يلقي صحبه في بيت عدوه بمقاييسهم الجاهلية. وأما ثالثها: فهو أن الأرقم كان فتي عند إسلامه، في حدود السادسة عشرة من عمره، فلا يعقل أن يجتمع المسلمون في بيته، دون بيوت الكبار منهم. ولقد كان احتياط النبي *صلي الله عليه وسلم* وصحبه في اختيار هذه الدار سببًا لاستتار أمرهم، وعدم انكشاف حركتهم يومئذ.
الهجرة إلى الحبشة
الدفاع عن النفس، وقتال من بغي واعتدي، لم ينزل أمر الله به بعد، والبقاء في مكة أصبح مستحيلاً، مع هذا الاضطهاد والتعذيب، فماذا يفعل المسلمون إذن؟ إن رسول الله *صلي الله عليه وسلم* الرحيم بأمته، قد ارتأى لهم أن يفروا بدينهم إلي ديار آمنة، فأشار عليهم بالهجرة إلي الحبشة، فهاجر منهم في رجب سنة خمس من النبوة اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجه السيدة رقية بنت رسول الله *صلي الله عليه وسلم*، وقد هاجر هؤلاء الصحابة تسللاً وخفية، في سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلي الحبشة، حيث النجاشي الملك العادل، الذي لا يظلم عنده أحد. وما كاد المسلمون المهاجرون يستقرون بالحبشة حتى سارت إليهم شائعة بإسلام قريش، فقفلوا راجعين إلي مكة في شوال من نفس العام، وما تبينوا الحقيقة إلا بعد ساعة من نهار في مكة. واشتد تعذيب المشركين لهم، فكانت هجرتهم الثانية رغم يقظة المشركين، وشدة حذرهم. وبلغ عددهم في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة، لكن أني لنار قريش أن يهدأ أوارها، لقد عز عليها أن تعلم أن المسلمين قد وجدوا مأمنًا يعبدون فيه ربهم، فكانت مكيدتها بإرسال رسولين إلي الحبشة لاستردادهم من النجاشي، وقد خاب سعيهم، وبطل مكرهم، ورد النجاشي رسولي مكة دون أن يقضي لهما حاجة، بل أعلن إيمانه بما جاء به مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*، أما هؤلاء المهاجرون، فقد مكثوا بالحبشة، حتى مكن الله لنبيه بالمدينة، فعادوا إليها، وكان آخرهم عودة جعفر بن أبي طالب بعد فتح خيبر.
إشاعة إسلام قريش ومكيدتهم
بينا سادة وكبراء مكة جالسين حول الحرم في جمع كبير، في رمضان من العام الخامس للنبوة، إذ فوجئوا برسول الله *صلي الله عليه وسلم* يطلع عليهم، جاهرًا بتلاوة سورة النجم، وأخذ كلام الله المبين بتلابيب عقولهم، فما استطاعوا منه فكاكًا، ووصل النبي إلي قوله تعالي: (فاسجدوا لله واعبدوا) فسجد، وما تمالك المشركون أنفسهم حتى سجدوا معه جميعًا، وقد صدعت الآيات عناد نفوسهم واستكبارها، وهنا ارتبك المشركون مما حدث لهم ولم يدروا ما هم صانعوه، وتخوفوا العتاب واللوم ممن كانوا يتبعونهم أو يعارضونهم، فاحتالوا لذلك حيلة دنيئة، ومكروا مكرهم السيِّئ، وافتروا علي رسول الله *صلي الله عليه وسلم* الكذب والبهتان، فزعموا أنه قال: تلك الغرانقة العلي، وإن شفاعتهن لترتجي، بعد أن تلا: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) يريدون أن يزعموا أنهم ما سجدوا لإله مُحَمّد، إنما مُحَمّد هو الذي ذكر آلهتهم بخير، وكان من توابع هذه الحادثة العجيبة أنها وصلت إلي مهاجري الحبشة، لكن في صورة جديدة، فقد وصل إليهم أن قريشًا قد أسلمت، وسجدت لله رب العالمين، فاستبد بالقوم الفرح، وعزموا علي الإياب لمكة، فدخلوها في شوال من العام نفسه، فسامتهم قريش التعذيب والتنكيل، واحتاطوا ألا يهربوا منهم ثانية، إلا أن تدبير الله أعظم، فقد عاد المهاجرون إلي الحبشة في هجرة جديدة رغم حيطة قريش وحذرها.
مكيدة قريش
هجرة المسلمين للحبشة للمرة الثانية وبعدد يبلغ خمسة أضعاف العدد الذي هاجر أول مرة، كانت صفعة آلمت صدغ قريش وصكت أسنانها!! وبحركة لا ينهزها إلا الحقد، ولايحدوها إلا ألم الهزيمة، بعثت قريش اثنين من خيرة رجالاتها إلي الحبشة، ليسألا النجاشي أن يرد مهاجري المسلمين إلي مكة ثانية، وبقدر ما كان هذا الطلب شرسًا، بقدر ما كان غريبًا مضحكًا!! أناس كانوا يعبدون ربهم ببلدهم فأبي قومهم أن يعبدوه، فهاجروا إلي أرض بعيدة، يعبدون فيها إلههم، ولا يؤذون بها جارًا أو يعتدون علي مواطن، ما المنطق في أن يستردهم كارهوهم؟ وما الحكمة في أن يردهم مضيفوهم؟!. تكلم رسولا قريش عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة إلي النجاشي في رد المسلمين، وصدهما بطارقته، فأبي الرجل العادل أن يفصل في قضية دون سماع جميع أطرافها، وتحدث جعفر بن أبي طالب عن المسلمين، فوصف ما كان عليه قومه من الجاهلية، وأبان ما أمرهم نبيهم صلي الله عليه وسلم* أن يفعلوه من الخير وما أمرهم أن يتركوه من الشر، ووضح كيف اضطهدتهم قريش وسامتهم العذاب، حتى لجئوا إلي أرضه واحتموا ببلاده، وقرأ عليه من سورة مريم، حتى بكي النجاشي ودمعت أعين أساقفته، وهنا أطلق النجاشي حكمه، وفصل في قضيته قائلاً: إن هذا والذي جاء به عيسي ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون. فخرج عمرو وصاحبه بخفي حنين لكن عمرو بن العاص داهية العرب لم يستسلم، فكرَّ علي النجاشي صبيحة اليوم التالي ليوقع بينه وبين المسلمين قائلاً: أيها الملك إنهم يقولون في عيسي بن مريم قولاً عظيمًا؛ فاستدعي النجاشي جعفرًا ليسأله فأجابه: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلي مريم العذراء البتول؛ فصدقه النجاشي علي ذلك وأخذ عودًا من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسي بن مريم ما قلت هذا العود. وأمّن المسلمين علي أنفسهم، وردّ علي رسولي قريش هداياها، وأعادهما خائبين لمكة.
تقوية شوكة المسلمين
كلما زاد الليل ظلمة، وكلما اشتدت السماء حلكة، كلما كان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر جديد. أبو جهل يمر بالنبي *صلي الله عليه وسلم* عند الصفا فيؤذيه وينال منه، فلا يرد عليه الرسول *صلي الله عليه وسلم* شيئًا، ويأبي المعاند أن يترك مُحَمّدا كريم الخلق يمضي في طريقه، حتى يضربه بحجر في رأسه الشريفة؛ فيسيل منها الدم نزفًا، ثم تكون هذه الحادثة الأليمة مقدمة لنهاية سعيدة هي إسلام حمزة بن عبد المطلب. حمية في بادئ الأمر، ثم إيمان راسخ بعدها. ولا تكاد أيام ثلاثة من شهر ذي الحجة للعام السادس من نبوته *صلي الله عليه وسلم* تمر بعد إسلام حمزة *رضي الله عنه* حتى يلطم عمر بن الخطاب أخته فاطمة علي وجهها لطمة شديدة؛ لإيمانها بمُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*، فيكون الدم السائل من وجهها سببًا لإيمان ابن الخطاب، وإعلانه شهادة الحق، وفي أيام ثلاثة تتبدل أحوال المسلمين، والدعوة المحبوسة في دار الأرقم في تجد طريقها إلي الكعبة، في وضح النهار، وعلي مسمع قريش ومرآها، أقدام المسلمين تشق طرقات مكة، في صفين طويلين، يقدم أحدهما أسد الله حمزة، ويسبق الآخر الفاروق عمر، الذي أبي الاختباء، وأقسم لنبيه *صلي الله عليه وسلم* قائلاً: والذي بعثك بالحق لنخرجن!، فكان خروج المسلمين وكانت عزتهم. يصف صهيب تلك الحال قائلاً: لما أسلم عمر، ظهر الإسلام ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به!.
مساومة قريش
المساومة وسيلة مباحة! لكن أن تكون علي العقيدة، فهذا أمر لا سبيل إليه، وقريش وقد رأت شوكة المسلمين قد قويت، أخفت عداءها داخل صدرها، وجاءت تساوم علي عقيدة النبي *صلي الله عليه وسلم* ومن معه، أما ما ساومت به، فكان جمع المال حتى يكون النبي أكثرهم مالاً، وكان الملك والسيادة حتى يكون أكثرهم جاهًا، وكان العلاج إن كان ما أصابه مسًّا من الجان! والحق أن قريشًا بمساومتها تلك قد أعلنت أمرين أولهما: فراغ جعبتها، وضعف عزيمتها بعد تقوية شوكة المسلمين، وثانيهما: أن المال والجاه عندها أنفس من العقيدة وأغلي ثمنـًا إذ ما تصورت حين عرضت بضاعتها، أنها ستئوب بها وقد ردها النبي *صلي الله عليه وسلم* أما مُحَمّد فقد وجد نفسه في وادٍ والقوم في وادٍ آخر، فأبي أن يساوم أو يساوم، وعاد إلي بيته حزينًا آسفًا.
تجمع بني هاشم وبني المطلب والمقاطعة العامة
الأفضل عند المواجهة ألا تكتفي بالرد علي خصمك، بل تضع نفسك مكانه، لتتنبأ بما ينوي أن يصنعه، فتبادره قبل أن يسبقك. هكذا تعلم أبو طالب من بيئته الصحراوية المتقلبة، والرجل العاقل الحريص علي ابن أخيه استقرأ الأحداث، فوجد قريشًا قد وصلت مع مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* إلي طريق مسدود، ولم يعد أمامها إلا قتل مُحَمّد، رضي أبو طالب بعد ذلك أم سخط، ثم إن أحداثًا متعاقبة صارت تؤكد لديه حدسه، فالمشركون هددوه بالمنازلة، وساوموه علي قتل ابن أخيه مقابل إعطائهم ابن الوليد له يربيه ويتخذه عوضًا، ثم محاولة أبي جهل رضخ رأس النبي *صلي الله عليه وسلم* بحجر ألقاه، ومحاولة عدو الله عقبة بن أبي معيط خنقه بردائه، وخروج عمر *قبل إسلامه* بسيفه عازمًا ذبح مُحَمّد* كل هذه الأحداث تؤكد لأبي طالب أن المشركين لن يأبهوا لجواره وذمته. وهنا لم يبق لأبي طالب إلا المبادرة والحزم، فجمع أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف، ودعاهم إلي منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابه إلي ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربي، وأدخلوا رسول الله *صلي الله عليه وسلم* في شعبهم، منعًا له ممن أراد قتله، فأسقط في يدي قريش، ولم يبق أمامها إلا إعلان المقاطعة العامة.
المقاطعة العامة الأحداث في مكة صارت متلاحقة، حمزة يدخل الإسلام، ولا تكاد أيام ثلاثة تمر حتى يتبعه عمر، والمسلمون يخرجون في طرقات مكة، يعلنون عن إيمانهم، وقريش تتنازل عن بعض كبريائها وتذهب إلي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*؛ لتساومه، لكن النبي *صلي الله عليه وسلم* يردها خائبة، ثم يعلن أبو طالب جمعه لبني هاشم وبني عبد المطلب علي نصرة مُحَمّد، والرسول يدخل في شعبهم احتماء من كيد قريش. إن سرعة الأحداث وتعاقبها في فترة وجيزة، لا تتجاوز الأسابيع الأربعة تنبئ بحدث جلل، لم يلبث حتى أسفرت عن وجهه الأيام، فقد هدي قريشًا شيطانها إلي كتابة صحيفة علقت بالكعبة؛ لمقاطعة بني هاشم وبني المطلب مقاطعة تامة تفضي إلي هلاكهم، وصبر رسول الله *صلي الله عليه وسلم* والمسلمون، ومعهم بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم في شعب أبي طالب، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشًا علي رحمه، وذلك من ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، ولمدة ثلاث سنين متصلة، حتى منّ الله تعالي عليهم، ونقضت الصحيفة الظالمة، القاطعة للرحم.
كتابة الصحيفة ونقضها
اجتمع سادة قريش في خيف بني كنانة من وادي المحصب، فتحالفوا علي بني هاشم وبني عبد المطلب، ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموه للقتل. ويقال إن منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم هو الذي كتبها، ويقال النضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، وقد دعا رسول الله *صلي الله عليه وسلم* علي كاتبها، فشلت يده.
لا تعدم الدنيا رجالاً ذوي خلق، يحكمون عقولهم، وإن زاغت أبصارهم عن رؤية الحق في دين الله! من هؤلاء الرجال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، يشبه في نعته دعاة الإنسانية، المنتشرين عبر العصور، ومن كافة الأديان، أبت نفس الرجل أن يري أناسًا يتضورون جوعًا، وأسباب الطعام تلقي في طرقات مكة لقلة آكليها، فكان يمد بني هاشم بالطعام ليلاً دون أن يفطن إليه أحد، لكن المقاطعة طالت حتى مر عليها ثلاث سنوات، ففيم الوقوف والانتظار؟. احتال هشام علي صحيفة قريش بحكمة ودهاء، فذهب أولاً إلي زهير بن أبي أمية المخزومي *وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب* فأثار حميته: أرضيت أن تطعم الطعام، وتشرب الشراب وأخوالك بحيث تعلم؟، فاحمر وجه زهير وقال له: ويحك فما أصنع وأنا رجل واحد؟، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها! قال: قد وجدت رجلاً، قال: فمن هو؟، قال: أنا، فأجابه زهير: ابغنا رجلاً ثالثًا. وما زال هشام يعمل بحيلته حتى جمع مع زهير ثلاثة رجال غيره: المطعم بن عدي وأبا البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، فصاروا جميعًا خمسة، وفي الصباح غدا زهير إلي الكعبة، فطاف سبعًا، ثم أقبل علي الناس قائلاً: يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكي، لا يباع ولا يبتاع منهم؟، والله، لا أقعد حتي تشق هذه الصحيفة القاطعة للرحم الظالمة، فقال أبو جهل غاضبًا: كذبت! والله لا تشق؛ فثار زمعة علي أبي جهل ثم أيده أبو البخترى، فالمطعم، فهشام بن عمرو، وهنا بهت أبو جهل ثم قال بمكر: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان. وكان أبو طالب جالسًا في ناحية من المسجد، فأخبرهم بقول رسول الله *صلي الله عليه وسلم* أن الأرضة قد أكلت صحيفتهم حتى لم يبق فيها إلا "باسمك اللهم"، وتحداهم أبو طالب قائلاً: فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، فأجابوه لذلك، وقام المطعم ليمزق الصحيفة، فوجدها كما قال أبو طالب، فنقضت وعاد بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلي مخالطة قريش، التي لم تهزها هذه الآية العجيبة قيد شعرة عن كفرها وعنادها.